...
...(١ ) ...
...بالرغم من توقف الامطار لم تستطع ان تترك سيارتها ...لولا ذلك الظل
الذي ظهر بجانبها ... كانت شبه متأكدة انها تهذي ... غالبا عندما تتمني رؤية شخص ما
بشدة تشعر انك تراه فعلا ...نظرت اليه ثانيا و رأته يلوح لها ...اطفأت المحرك و ترجلت
... حيته ... سألها ان كانت بخير ؟ و اجابت ...نعم ...عيناها الحمراوتان و وجهها الذي
لم يجف تماما اخبراه انه تكذب ... و لكنه لم يعد السؤال ... و لكنه ... و من دون ترتيب
مسبق عرض عليها ان يجلسا في مكان ما سويا ... او ان يتجولا قليلا ... كان يشعر انها
تريد ذلك ... و لكنه لم يكن متأكد من استجابتها ... و لكن علي غير المتوقع ايضا
... وافقت ... كانت رائحة الشكولاته الساخنه تملا المكان ... خمس سنوات مرت منذ اخر
لقاء... خمس سنوات اختصرها في ثلاثين دقيقة ... اخبرها عن اسرته ... و ابنته التي تزوجت
حديثا ... و زوجته ... قال انها لن تصدق تلك الصدفة ... و انها بالتاكيد سترغب في لقائها
... كانت ماجدة تستمع اليه و تستعيد ذلك الاحساس الذي طالما عجزت عن وصفه او تحديد
ملامحه حتي لنفسها ... قاطعه رنين هاتفها ... اجابت ...:" نعم انا بخير ... بالتأكيد
سأعود ...; انهت المكالمة و اكملت بينها و بين نفسها ... يوما ما ... نظرت لرفيقها
و اوضحت ... :انه ابني...ابتسم ... و ابتسمت و استطردت ..اعني ابن زوجي... انها الحادية
عشر مساء ... لابد انهم قلقون عليك ... اجابت باقتضاب ... : نعم ...; .. لم تكن تريد
ان تحكي عما حدث ... لم تكن تريد ان تعيد تلك المناقشة البسيطة بخصوص قرار يخص دراسة
عادل .. ابن زوجها ..و التي انتهت نهاية قاسية ... طاعنة ... لم تكن تريد ان تقول له
انها في الطريق حتي الحادية عشر لانها لا تعلم الي اين تذهب ... نظرت اليه و كام هو
ينتظر ان يسمع منها ... فحكت ... حكت عن الخمس سنوات خاصتها حتي لحظة ما قبل النقاش
... و كانها لم تكن ... اخر ما كانت تريده هو ان تظهر بهذه الصورة الضعيفة المثيرة
للشفقة ... اخر ما كانت تريد ان يراها هو بالذات في هذه الحالة ... قرب منتصف الليل استعدت للعودة ... او للرحيل
... علي وعد بلقاء اخر مع السيد ابراهيم ... احد سكان عمارة جدتها ... و الذي عاش قرب
ثلاثون عاما جارا لهم
(٢) ...اذا هذه هي العلامة ... ستذهب لمنزل جدتها
... و تمضي اليلة هناك ... و ما سياتي بعدها من ليالي ... ابدا لم تكن ممتنة لقرار
تركها بعض من اشياءها في ذلك البيت القديم ... تعرف ان اشتياقها الشديد لجدتها سيغرقها
مع اول خطوة داخل البيت ... و انها و هي في تلك الحالة ... لن تستطيع ان تقاوم ...لعل
هذه الذكرى تكون اخر ما يحطم السد الذي طالما تجمعت خلفه انفعلاتها ... لعلها تعلم
تلك الليلة الي مدي ارتفع منسوب ايا كان ما تشعر به طوال تلك السنوات ... في غرفة معيشة البيت العتيق... وضعت غطاء جديدا
و استلقت علي الاريكة ... و لم تمنعها رائحة التراب من الغرق في نوم عميق...
.
(٣) ...ايقظها صوت اهتزاز هاتفها الجوال ... بالتأكيد
هذا عادل ... يطمئن عليها ... و لكن قبل ان تلتقط الهاتف ...تراجعت عن فكرتها ... و
تذكرت ذلك الاحساس الخانق الذي طالما طاردها ... في كل مرة توقعت اتصال او سؤال
... و انتهت الي احباط ... و لكن هذه المرة كان عادل فعلا ... اجابت ...و سمعته يحدثها
بهدوء حاول قدر الامكان ان يحافظ عليه ... " انا قلق جدا يا امي ... قلق عليك
... جدا ... اريد ان اراك ... اشعر بعجز شديد ... يمزقني اني قليل الحيلة الي هذا الدرجة
..." " دائما ما كنت تناديني ماجده؟
لماذا اليوم تقول امي؟" " لان هذه
الحقيقة لن تتغير ... انت ..." قاطعته ... :" انا لا اربد شفقتك ...
" "ابدا لم اعرفك بهذه القسوة
." صمتت لحظة تستمع لتنفس عادل الغبر منتظم ... و لكنها لم تستطع ان تميز ان كان
ذلك غضبا ام بكاء ... اخيرا قالت:" انا
فقط احتاج بعض الوقت ... " "كما
تربدين... و لكن علي الاقل اسمحي لي ان اطمئن عليك ..." "بالتأكيد ... سنبقي علي اتصال
.
(٤) " انت هنا ... كنت متأكدة انك هنا ... كنت
متأكدة انك لم ترحلي و تتركيني وحدي ... جدتي ... ضميني ... ضميني بشدة ... فيذهب وجعي
بعيدا ... اعرف اني لم اكن موجودة ... اعرف اني ابتعدت ... و لكني اعرف انك ستسامحيني
... انت هنا ... و هذا يعني انك سامحتيني ... " فتحت ماجدة عينيها ...و ادركت
ان هذا الحلم زارها للمرة الاولي منذ اكثر من خمس سنوات ... حاولت ان تنام ثانية
... و لكنها لم تستطع ... تأكدت من غلق النوافذ ... و الباب ... و استلقت مرة اخري
علي الاريكة ...
(5) فقدت الاحساس بالزمن
... لا تريد حتي ان تنظر لنتيجة هاتفها ...او تعرف الوقت ... النوافذ مغلقة دائما
... و نومها متقطع ... لا تشعر بالجوع ...و لا تأكل ... لا شيء يعيد الايقاع لحياتها
... الي ان اخترقت عالمها طرقات خافته علي الباب القديم ...و وجدت زائرتها تنظر اليها
بحيرة .... انها السيدة مني ... زوجت الاستاذ ابراهيم ... جاءت لتحضر بعض الاغراض من
شقتها ... و عندما اخبرها البواب ان ماجده في المنزل قررت ان تمر و تلقي عليها التحية
..."اليوم ستتناولين الغذاء معنا ...
ابراهيم لن يصدق انني رأيتك بعد كل تلك الفترة ...." ... اذا هو لم يخبرها
عن تلك المرة التي تقابلا فيها ... لا يهم ... لا شيء يهم ... " سننتظرك ... او
... تعالي معي الان " ... كانت السيدة مني مصرة بشدة ... و لم تجد ماجدة سببا
مقنعا للهروب و المكوث فى المنزل ... و لكن علي الاقل ستذهب وحدها ... ستستعد و تشتري
شيئا يليق بسيدة المنزل و صاحبة الدعوة ... و ستشاركهم الغذاء
...
(٦) لم تدر لم وضعت كل هذا
الكم من مساحيق التجميل ... نظرت ماجدة لصورتها في المراه ... و كأنها تنظر لشخص اخر
... قد يكون هذا هو السبب ... و لم تدر لم بدأت في ازالتها قبل ان تغادر ... وصلت حوالي الخامسة عصرا ... زيارة طبيعية ... تقليدية
... وجدت فيها شيئا من الراحة ... الي ان القي الاستاذ ابراهيم كلماته قاطعا لحظة صمت
... " ابدا لم اؤيد هذا الارتباط ... لقد كان خطا كبيرا ..." نظرت اليه زوجته
غير مصدقه ... ارادت ان تصرخ لتؤنبه ... و تسكته ... و لكن ما الجدوي ... لقد انطلقت
كلماته مخترقه ذهن ماجدة ... و كانها افقدت عقلها قدرته علي الاحتفاظ بقناع الهدوء
... و الطبيعية ... فتغيرت ملامحها و لكنها كالعادة ... ظلت صامته ... كانت تريد ان ترحل ... ان تختفي ... حاولت ان تنهي
الزيارة و لكن الاستاذ ابراهيم استوقفها مرة اخري ... :" لا تحاولي الهروب
... يكفي ما اضعته بسبب خوفك المستمر من المواجهة ... ستجلسين ... و سنجد حلا للمشكلة
... " اخيرا نظرت ماجدة اليه و قالت
..." انت لا تعرف شيئا ..."
(٧) ... "ما كان يجب ان تناقشها بتلك الطريقة
..." نظر ابراهيم لزوجته و قبل ان يرد استكملت ... "انت تعلم انك جزء من
المشكلة ... " "انا؟" ...
لم يكن ابراهيم يتوقع تلك المناقشة ... و بالتأكيد لم يكن يتوقع ما قالته مني متابعة
... " نعم ... انت ... حين تركتها ... كنت تعلم مدي تعلقها بك ... و بالرغم من
ذلك رحلت ... تركتها ... دون حتي ان تشرح لها الاسباب ... تركتها لذلك القرار الاحمق
..." " هل هذه محاولة لتؤنبيني
علي قرار السفر لانك لم ترغبي فيه منذ البداية؟ ام انك فعلا تعنين ما تقولين؟
" " اظنك تعرفني جيدا لتعرف اجابة
هذا السؤال ... و لكني ساقولها لك صراحة ... انا اعني ما اقول ... حقا كان السفر ضد
رغبتي ... و لكني احترمت اختيارك ... و رافقتك لاني كنت اريد ان اكون معك ... و انا
الان اعني ما اقول ... " بعد لحظة صمت قال ابراهيم بهدوء ..."انا لا اصدق
... لا يمكن ان يكون هذا ما حدث..."
" ... لماذا اذا اخفت عليك كل التفاصيل ؟ لماذا لم تلجأ اليك و انت المفترض
صديقها ؟ كانت تخشي ان تخذلها ... "
" كل هذه الفترة و انت تعلمين؟ " " اعلم ماذا؟" "انها تحبني " " انت من لا يعلم ... هي لا تحبك كما تتصور
...لو كانت فعلا هل كنت تتصور اني سادافع عنها ... و اسمح لها بالتواجد بيننا ... انت
لم تستطع ان تدرك ماذا كنت انت بالنسبة لها ...و اخشي انك لن تدرك حتي بعد كلامي
... " " هي من اخبرتك بهذا؟" "لا ... هذه الاشياء لا تحتاج لكلمات حتي نعرفها
... هذه الاشياء نراها بقلوبنا ... و اجابة علي تلك النظرة التي ستلتهم عينيك ... اعرف
ذلك لان ببساطة ماجدة هي انا ..."
(٨) ... غادر ابراهيم المنزل و سار في الشوارع بلا اتجاه معين ... كانت
تلك طريقته في مقاومة التوتر الذي سيطر عليه بعد زيارة ماجدة ... و حديث زوجته مني
... راح يتذكر منذ عشر سنوات عندما بدأ العمل في قضية تخص احد شركات الادوية ... و
كيف انه بالرغم من كونه احظ المحامين المشاركين في القضية ... تم استدعائه للادلاء
بشهادته ... و بسبب ظروف القضية ... كان عليه ان يحمي نفسه ... و اسرته ... فقام بقطع
تذاكر سفر باسمائهم ... غير ان من كان علي متن الطائرة المتجهة لكندا ...اسرة اخرى
تماما ... سافرت علي انها اسرة ابراهيم ... داعيه خصمهم في القضية لمطاردتهم في بلاد
بعيدة و غريبة ... مطاردة استنذفت الكثير من المال ... و اعطت ابراهيم الكثير من الوقت
للاختباء ... و اعادة ترتيب اوراقه ... اختبأ في منزل جدة ماجدة ... كان هو اول غريب
يسكن في تلك العمارة العتيقة التي خصصت شققها لافراد العائلة ... حتي و ان كانوا كلهم
رحلوا و عاشوا في اماكن و بلاد مختلفة ... الا ماجدة ... الغالية ماجدة ... كما كان
يدعوها ... كانت تزوره باستمرار ... تعطه ما اعدته جدتها من طعام ... و احيانا تشاركه
وجبة او اكثر ... كان يذكر تلك الفترة جيدا ... كان علي وشك الجنون ... لولا ماجدة
... وثق بها ... اطلعها علي تفاصيل القضية ... ساعدته دون حتي ان تدرك انها ساعدته
... وثق بها كثيرا .... و كانت هي اهل لتلك الثقة ... لم تجبن ... لم تتردد في تنفيذ
اي من الاشياء التي كان يطلب منها ان تنفذها بالرغم من المخاطرة التي كانت تتعرض لها
... شاركته الكثير ... الي ان جاء يوم المحاكمة ... و ظهر ابراهيم ... و قدم شهادته
... و عاد ليعيش مع زوجته في بيت جدة ماجدة ... الي ان جاء يوما و قرر السفر ... ليكمل
حياته في بلد اهر بناء علي طلب ابنته ...
...
(٩) ... ابدا لن تنسي ماجدة تلك الليلة ... باخبارها بقرار سفرهم هو
و مني ...... هكذا اختياره ... و عليها ان تحترمه ... لقد اعطاها الكثير في فترة معرفتها
به ... و رسم الكثير من ملامحها ... و لكن في موقف مماثل ... هي خارج المعادلة ...
و لا جدوى من السؤال او الكلام ... او الطلب ...... لن تفعل شيئا ليس من حقها ان تفعله
...لن تتخطي الحدود التي رسمها لها ... و حدد بها مكانها ... اذا هذه هي المساحة التي
منحها اياها ... كانت ركة لتلك الحقيقة ... و غيرها من الحقائق ... و لكن الادراك شيء
... و ان تجد الحقيقة واضحة صريحة في وجهك شيئا اخر ...كما ان ادراك الحقيقة لا يجعلها
اقل قسوة ...لقد اعطاها الكثير ... لا يمكن ان تنكر فضله ... و كرمه ... و لا يمكن
ايضا ان تنكر انها كانت تتمني ان يظل قريبا ...
و
صلت ماجدة لبيت جدتها لتجد رسالة مكتوبة من عادل ... ابن زوجها ... لن اقول امي حتي
لا تغضبي ... مع ان ذلك لن يغير شيئا في الحقيقة ... انت فعلا امي ... انت من اختارت
ان تكون امي ... انتظرتك طويلا و لكني اضطررت للذهاب ... ستجدين في الظرف تذكرة سفر
... تذكرتك ... سنذهب سويا ... و سنكمل سويا ... افتقدك كثيرا يا صديقتي الغالية ماجدة
... عادل ...
(١٠) ... كانت تلك المرة الثانية التي وقفت فيها مني تطرق
باب شقة ماجدة ... دقائق مرت قبل ان تفتح ماجدة ... دعتها للدخول و اعدت لها الشكولاته
الساخنة ...و جلسا سويا يراقبان حركة الشارع ...اخيرا بدأت مني الحديث ... "اريد
اولا ان اعتذر لك بالنيابة عن ابراهيم ...ما كان يجب ان يتحدث بتلك الطريقة
" تفادت ماجدة نظرتها المباشرة ... و
اجابت ..:" لقد قال رأيه بصراحة ... حتي و لو كان ..." اكملت مني عبارة ماجدة
... "حتي لو كان قاسيا ... في الحقيقة ... هناك سببا اخر لزيارتي ...اريد ان اطمئن
عليك ... و اعرف ماذا ستفعلين ... انا اهتم لامرك يا ماجدة ... حتى لو لم اقل ذلك يوما" نظرت اليها ماجدة و قالت بهدوء "اعرف
..." " اذا ساتشجع و اسالك ... ماذا
ستفعلين؟ " " حاليا ...ليس لدي فكرة
" " زوجك يحاول ان يتصل بك
" نظرت لها ماجدة محاولة السيطرة علي انفعلاتها ... و قالت :" و هل طلب وساطتك
.." اجابت مني ... "لا ...لقد طلب وساطة ابراهيم ... و لكنك تعرفين ...
" " اعرف " قالت ماجدة
" هو لا يفهمني ... و لكن انت تفهمينني ... انت الوحيدة التي تستطيع ان تفهمني" عادت مني لمتابعة الطريق و قالت :" قد اكون
اتخذت نفس قرارك ... و تزوجت من رجل لاعتني بابنته ... و لكني لم اعش تجربتك ... و
لا خبرتك " ثم نظرت الي ماجدة و قالت :" و بالتاكيد انا لم احاول ان انهي
حياتي كما حاولت انت يا ماجدة"
(11)
للحظة
لم تستوعب ماجدة ما قالته مني ... لقد حدث ذلك قبل ان تعرفها .
منذ
عشر سنوات تقريبا ... وقفت ماجدة علي حافة الجسر ... كانت تنظر للمياه الداكنة ...
المتلاطمة ...قريبا جدا ستغرق المها ... و تحملعا بعيدا ... قريبا جدا سترتاح ...كانت
قد رتبت كل شيء ... و شرحت كل شيء في خطاب تركته في حجرتها ... لم يكن قرارا عصبيا
... هستيريا وليد اللحظة ... لقد فكرت كثيرا ... و حاولت كثيرا ... و لم تستطع الاستمرار
...تنفست ... و القت بوزنها علي حافة السور ...و قبل ان يتغير مركز اتزانها ... و يدفعها
لاسفل اخترقت اذنيها صرخة طفل صغير و صوت بكاء يعلو ...
انتبهت
و استعادت توازنها ...و استدارت لتري مصدر الصوت ... كان ولدا صغيرا ... يبكي ... كان
يسير وحده ... لم يكن لديها شيئا تخسره ...تقدمت نحوه و حاولت ان تسأله عن اسمه
... و لكن وسط هذا البكاء لم تفهم سوي جملة واحدة كان يرددها ... و انتهي بان القي
نفسه بين ذراعيها و ما زال يقول "اريد امي ...اريد امي..." ضمته بشده
... هدأ بعد دقائق ... هدوء مؤقت ... سمح لها ان تعرف منه انه لا يريد العودة للبيت
لان والدته لم تعد هناك ... و انه هرب من المدرسه ... التي تصادف انها نفس المدرسة
التي تعاقدت علي انهاء اعمال الديكور بها ... كانت تعرفها ... و تعرف بعض العاملين
فيها ... و كانت تلك الطريقة الوحيدة التي ستمكنها ان تعيده لوالده ... مدت يدها فامسكها
و تعلق بها بشدة ... و سارا معا ... انا ماجدة ... قالت لتخبره اسمها ... نظر اليها
و قال ... و انا عادل ...
كانت
الساعة حوالى السابعة مساء حين وصل عادل و ماجدة ﻷمدرسة. و قبل ان تسأل ماجدة عن رقم
هاتف والده ، شد عادل علي يدها و قال :" دقائق و يصل أبي لنعود ﻷمنزل. .. لن يفتقدني.
.. فهذا ميعاده المعتاد" توقف عن الكلام و تابع بعينيه السيارة السوداء التل تقترب
منهما و لأول مرة رأت ماجحة والد عادل.
في
لحظة كان الرجل خارج السيارة يصرخ بعنف :" ماذا تفعل خارج باب المدرسة؟"
شعرت
ماجده بيد عادل الصغيرة تضغط يدها و دون تفكير بادرته الكلام :" لقد خرجنا لأن
ذلك موعد وصولك. .. لم نرد أن تتحمل مشقة ترك السيارة و الدخول...لم يخرج وحده. ..
لقد كنت معه"
نظر
الرجل لماجدة. .. و ليدها الممسكة بيد عادل. .. هدأ قليلا و قال :" هل تعملين
بالمدرسة؟"
أجابت
:"نعم. ..اسمى ماجدة. .. " و لم تجد داع لشرح حقيقة انها تهتم بتنفيذ ديكور
بعض القاعات في المدرسة و ان تواجدها في المدرسة مؤقت. .. كات تريد ان ينتهي الموقف
بسرعة. ..و قد حدث. .. صعد عادل للسيارة و انطلق مع والده للمنزل. ..
لم
يستطع عادل فهم ما يشعر به تجاه ماجدة... هي من انقذته. .. و لم يحاول أن يهم. ..كل
ما كان يريده ان يمضي اكبر قدر ممكن من الوقت معها...و قد كان. .. كانت ماجدة تمضي
تلك الساعات بعد انتهاء اليوم الدراسي و حتي السابعة مع عادل. .. و النشاط الصيفي كان
يمنحهما وقتا اطول. ..
و
استمر ذلك النظام لعامين. ..لم تمل ماجده. ...
و كأن ذلك لم يكن كافيا. .. حدث أيضا
ان عاد السيد ابراهيم ليعيش في شقته. .. في منزل جدتها. .. عاد وحده ليعبث بهدوء حياتها
و استقرارها دون أن تدري. ..
بالتدريج
بدأت تدرك ان هناك شيء غيرطبيعي. .. وجوده المستمر بالشقة. ..النوافذ المغلقة. ..جدتها
التى كانت تطلب منها أن تشترى طعاما و أشياء اخرى تعطها للأستاذ ابراهيم كنوع من
"ضيافة المستأجر " كما بررت حتي يعرف ذلك الغريب الأماكن و يتمكن من خدمة
نفسه. ..لم تجادل ماجدة. .. و لم تتوجس خطر. .. ولم تعترض. .. طالما مواعيد خدمة المستأجر
لم تتعارض مع عادل.
الي
أن ذهبت يوما لتجد الباب مفتوحا. ..و استاذ ابراهيم ملقي علي الأرض. .. أول ما فكرت
به أنه مريض. ..او مصاب. .. و لسبب ما لم تخرج لطلب المساعدة. .. اقتربت منه. .. و
رأت وجهه. .. كان يبكي. ..كان امامه الكثير من الأوراق. .. أوراق لم تفهم منها شيئا
في البداية. ..حاولت أن تقترب. ..لم يبدي اعتراض. .. نظر اليها و تركها تحتضنه.
... مرت دقيقة قبل أن يدرك ان عليه ان يتماسك. .. ابتعد قليلا و قال. .. :"اعتذر "
نظرت
اليه ماجدة و قالت بهدوء :" لا داعي ﻷاعتذار "
تمالك
ابراهيم نفسه و انتقل ليجلس علي الكرسي. .. و قال :" عادة قدرتي علي الاحتمال
عالية. .. و لكن هذه القضية استهلكت اعصابي. .. "و دون توقف راح يحكي لها تفاصيل
القضية التي كانت سبب في مجيئه للاختباء في ذلك البيت. .. حكى لها كل شيء. ..و هي استمعت
بتركيز. .. حاولت أن تفهم دون ان اسئلة. .. شعرت بالفخر لأنه وثق بها. .. و ائتمنها
على سره. .. و لكن سرعان ما تداركت الحقيقة. .. كل ما حدث كان بسبب الحالة الضغط الشديدة
التى كان يتعرض لها. .. ارتاحت لذلك التفسير. .. اخر ما كانت تريده هو التعلق بشخص
اخر. ..وكانت تعلم انه و هو فى هذه الحالة لو وجد حارس العقار أمامه. ..لحكى له كل
شيء. .. و ان كان هذا يشرح ما حدث تلك الأمسية. .. الا انه لايفسر كل المرات التى تلت
ذلك. .. حيث قام ابراهيم بمناقشة الكثير من التفاصيل. .. بل و في بعض الأحيان كان يطلب
منها القيام ببعض المهمام. .. بدلا منه. ..كان يثق بها. ..و كان ذلك كافيا. ..
مر
أكثر من شهر. .. و انتهت القضية. .. و لم تنتهي القصة. ..ظلت ماجدة تتردد علي استاذ
ابراهيم بانتظام. .. كانت تشاركه الكثير من الأمسيات. .. يستمعان للموسيقي العربية
القديمة...
حتي
بعد عودة السيدة منى للمنزل. .. لم تستشعر منها رفض لتلك الزيارات. .. و فى بعض الأحيان
كانت تدعوها شخصيا لمرافقتهم و لتشاركهم وجبة عشاء لذيذة ساخنة اعدتها مني بنفسها. ..
روتين جميل. ..أقرب الي النظام الكوني.
.. حكم حياة ماجدة ما يقرب من خمسة اعوام. .. الي أن قام والد عادل بالتقدم لخطبتها.
..
و
فى أحد الأمسيات انتهزت ماجدة فرصة و جود منى و اخبرتهم بما حدث. ..و بقرارها. .. و
للمرة الأولى شعرت بخوف شديد من ابراهيم. .. كانت ردة فعله عنيفة جدا. .. رفض بشدة.
.. صار يعنفها و يتهمها بالغباء و السذاجة و الجنون. ..
حاولت
أن تنظر لمنى لعلها تجد دليلا لتتعامل مع الموقف. .. و لكن منى كانت تنظر بدؤرها لابراهيم.
.. غير مصدقة ما يقول. .. اذا هكذا يراها. .. هي من تزوجته لتهتم بابنته... يراها ساذجة
و غبية. ..أم انها واحدة من تلك المقاييس المزدوجة التي يتمتع بها الرجال. ..
و
استمر ابراهيم في عاصفته غير منتبه لصمت ماجدة. . و محاولاتها اليائسة لتخفي وجهها
و عينيها حتي لا يري انها تبكي. ..
اخيرا
قالت ماجدة :" زواجنا مجرد وسيلة حتي اظل بالقرب من عادل. ..ليس اكثر "
و
كان تلك الجملة سائلا اسود الي علي نيران ابراهيم المشتعلة. .. فما كان الا ان صاح
بصوت اكثر حدة:" عادل. .. عادل. .. يوما ما ستدركين انك ارتكبت خطأ فاحا و أضعت
عمرك هباء عندما يقول لك هذا العادل انك لست امه. ..
في
تلك الليلة عادت ماجدة لحجرتهاو قد تاهت كل الأفكار في رأسها. .. كانت تعرف أن كلام
ابراهيم و ان كان قاسيا. ..فبه شيء من الحقيقة. ..قررت أن تؤجل ردها. .. و أن تكمل
حياتها محافظة علي الروتين قدر استطاعتها. .. و نجحت. .. الى دح ما. .. فبعد اسبوع
عادت لتزور ابراهيم. .. لم تكن مني موجودة. .. و تصورت ماجدة ان غياب صاحبة المنزل
هو سبب شعورها بالضيق. ..و لكن ما أن بدأ ابراهيم في الكلام حتي فهمت سبب تلك القبضة
التي كانت تعتصر قلبها. .. أخبرها أنه سيرحل. .. سيذهب ليعيش مع ابنته. .. و أنه و
مني سيسافران بعد أسبوع. ..
كان
كل ما ارادته ماجدة في تلك اللحظة اللا يراها تبكي. .. بصعوبة حافظت علي انتظام تنفسها
و كان ذلك كافيا أن يعطيها بعض دقائق تحافظ فيها علي تماسكها. .. قبل أن تترك شقة ابراهيم
و تنطلق في الطريق المظلم. ...
كانت
تسير في الشوارع الباردة دون هدف. .. غدا ستذهب و تطلب منه ان يبقي. ..ستقول له بوضوح
:" لا ترحل. ..أنا احتاجك. .."و لكن بأي حق؟ حق الصداقة؟ لقد سلبها هذا الحق
عندما أخبرها قبل ميعاد رحيله باسبوع واحد... هو علي حق. .. هي فعلا ساذجة. .. ساذجة
لأنها تصورت انه يهتم لأمرها. .. أنها قد تجد لنفسها مكانا بجانبه. .. هو الانسان المزدحم
بالناس و المسئوليات. .. كيف تصورت ان لها مكانا وسط كل هذه الأشياء التي هي اكثر أهمية
منها. .. لقد كان والد عادل أقل قسوة. .. قال لها صراحة أنه يريدها لتهتم بعادل.
.. لم يعدها بشيء. .. لم يشاركها شيئا. .. لم يفعل كما فعل ابراهيم. .. ستتماسك.
.. و تستمر. .. لن يكون ذلك سهلا. .. و لكنه لن يكون مستحيل. ..
مرت
كل الأحداث حية بتفاصيلها في ذهن ماجدة بعد أن تركتها مني. .. كأن كل شئ حدث البارحة.
.. و ليس قبل جمس سنوات. .. نعم خمس سنوات مرت علي رحيل ابراهيم. .. و زواج ماجدة جمس
سنوات عاشتها في منزل والد عادل لتجرج منه و تجد مرة أخري. .. ابراهيم. .. ليعيدها
لنقطة البداية. ..سؤال واحد لن تستطع أن تصل لاجابته... كانت علي يقين أنها لو حاولت
التفكير و هي متيقظة و صافية الذهن ستصل للاجابة التي تبحث عنها. .. و قد تطلب مقابلة
مني اجري لتسألها كيف عرفت تفاصيل ليلة لقائها مع عادل. ..غدا ستعيد ترتيب أوراقها.
. و ستهتم بكل شئ. ..
استلقت
علي الأريكة و حاولت أن تصل لشئ من الهدوء. .. و قبل أن تغمض عينيها سمعت طرقا علي
الباب. .. حاولت أن تتجاهله و لكنه عاد مرة أخري. .. احتمال أن يكون زائرها هو ابراهيم
جعلها تنتبه. ... و تنزعج. ... بعد كل ما حدث مازال هو الشخص الذي تتمني أن تراه.
.. اسرعت و فتحت الباب لتجد والد عادل. .."' اذا أنت هنا. .. في المرة القادمة
التي تقررين الذهاب فيها أجبرينا اين ستكونين بدلا من اضاعة كل هذا الوقت في البحث
عنك " جملة واحدة قالها و رحل. .. حتي أنها لم تكن واثقة أن ذلك حدث فعلا لولا
رائحة العطر القوية التي يضعها و التي تملأ المكان و تظل حتي بعد أن يمشي. ..
لقد
دخلت منزل والد عادل و هي تعرف أنه ليس مكانها و لكنها تصورت أنها تستطيع أن تترك اثرا...
تصورت. .. كان هذا خطأها. .. أن تصورت. .. و نسجت أملا من خيوط الوهم. ..
بالتأكيد
ستفيق من هذا الكابوس. .. و لكن الهواء البارد الذي ظل يصطدم بوججهها كان يؤكد لها
أنها متيقظة و تخطو في الواقع. ..
لن
تفكر كثيرا. .. لن تحاول أن تفهم. ..ستنطلق في شوارع المدينة الشتوية بلا حساب.
... و ستقطع كل الخيوط التي تربطها بأشياء تصورت أنها موجودة. ..
وضعت يدها في جيب معطفها بحثا عن شيئا من الدفء حين لامست
أصابعها ورقة مطوية. ..تذكرة السفر التي تركها لها عادل. ... يوما ما ستكتب له خطابا
تشرح لهلماذا
تركت هواء الشتاء يحما تلك الورقة الغالية.
..